كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَعْنَى الْآيَةِ هُنَا: وَلَا تَطْرُدْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، أَيْ فِي النَّهَارِ وَآخِرِهِ أَوْ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُكَنَّى بِطَرَفَيِ الشَّيْءِ عَنْ جُمْلَتِهِ، يُقَالُ: يَفْعَلُ كَذَا صَبَاحًا وَمَسَاءًا إِذَا كَانَ مُدَاوِمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ حَقِيقَتَهُمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ صَلَاتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا فِي الصَّبَاحِ وَالْأُخْرَى فِي الْمَسَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتَا الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ؛ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ يَشْمَلُ الدُّعَاءَ الْحَقِيقِيَّ وَالصَّلَاةَ وَالْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَيْنِ عَلَيْهِ، وَالْغَدَاةُ وَالْغُدْوَةُ كَالْبُكْرَةِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْعَشِيِّ آخِرُ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ {بِالْغُدْوَةِ} بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَيُسَاعِدُهُ رَسْمُ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ فِيهِ بِالْوَاوِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْغَدَاةِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَقَلْبِ الْوَاوِ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا حَسَبَ الْقَاعِدَةِ. وَاسْتُعْمِلَتْ غُدْوَةٌ بِالضَّمِّ- بِالتَّنْوِينِ وَبِغَيْرِ التَّنْوِينِ كَبُكْرَةٍ، وَمُعَرَّفَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا نَقَلَ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ، فَإِذَا نُوِّنَتْ قُصِدَ بِهَا صَبَاحَ يَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا لَمْ تُنَوَّنْ قُصِدَ بِهَا صَبَاحَ مُعَيَّنٍ، وَلَعَلَّ الْأَكْثَرَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ ظَنَّ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا مُطَّرِدٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ يَثْبُتُ بِهَا تَعْرِيفُ الْغُدْوَةَ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ، بَلْ ظَنَّ أَنَّهَا خَطَأٌ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الرَّسْمِ فَخَطَّأَ مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ، وَحَسْبُكَ فِي تَخْطِئَتِهِ هُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلِ الْخَلِيلُ وَكَذَا الْمُبَرِّدُ تَعْرِيفَهَا عَنِ الْعَرَبِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَنْعَ صَرْفِ (غُدْوَةَ وَبُكْرَةَ) لِلْعَلَمِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ، وَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ {يَدْعُونَ}، أَيْ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ مُرِيدِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَجْهَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُبْتَغِينَ مَرْضَاتَهُ، أَيْ يَتَوَجَّهُونَ بِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا، وَلَا يَرْجُونَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ثَوَابًا، وَلَا يَتَوَقَّعُونَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مَدْحًا وَلَا نَفْعًا، فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الرِّيَاءِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُطْعِمِينَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [76: 9] وَكَمَا قَالَ فِي الْأَتْقَى الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ لِيَتَزَكَّى بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَيَكُونَ مَقْبُولًا مَرْضِيًّا لَدَيْهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [92: 19- 21].
وَلَعَلَّ أَصْلَ ابْتِغَاءِ الْوَجْهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لِيُوَاجِهَ بِهِ مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ، فَيَعْتَنِي بِإِتْقَانِهِ مَا لَا يَعْتَنِي بِإِتْقَانِ مَا يَعْمَلُ لِيُرْسَلَ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحِظَ الْعَامِلُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ يَرَاهُ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُهُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنْهَا مَا لَا يَرَوْنَهُ الْبَتَّةَ كَأَنْ يَكُونَ لِمَا لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخِدْمَةِ فِي قُصُورِهِمْ، وَمِنْهَا مَا يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً إِجْمَالِيَّةً مَعَ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْهَا يَعْرِضُهُ عَلَيْهِمْ عُمَّالُهُمْ وَحُجَّابُهُمْ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَعْرِضُهُ الْعَامِلُ بِنَفْسِهِ وَيُقَابِلُ وَجْهَ الْمَلِكِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي يُعْتَنَى بِهِ أَكْمَلَ الِاعْتِنَاءَ، وَلَا يُفَكِّرُ الْعَامِلُ لَهُ فِي وَقْعِهِ عِنْدَ الْحُجَّابِ أَوِ الْوُزَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ بِطَانَةِ الْمَلِكِ أَوْ حَاشِيَتِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ وَيَلْقَاهُ بِهِ، فَيَكُونُ هَمُّهُ مَحْصُورًا فِي جَعْلِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ، جَدِيرًا بِقَبُولِهِ وَحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ جَعْلِ ابْتِغَاءِ اللهِ تَعَالَى مُنَافِيًا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ أَوِ ابْتِغَاءِ وَجْهِهِ، فَالْحَقُّ أَنْ لَا مُنَافَاةَ، وَأَنَّ الْكَمَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الذَّاتِ الَّتِي يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَجْهَ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ الرِّضَاءِ وَلَا الثَّوَابِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ الَّتِي لَا يَسْهُلُ إِثْبَاتُ إِمْكَانِهَا وَلَا مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلَا يُنْكَرُ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْأَحْوَالِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَنْحَصِرُ تَخَيُّلُهُمْ فِيهَا، حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَصَاحِبُ تِلْكَ الْحَالِ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الذَّاتِ، وَلَا يَعْقِلُ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ لَهَا، نَعَمْ إِنَّ مِنَ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ النَّجَاةَ مِنْ عِقَابِ النَّارِ أَوِ الْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَحْمُودٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّهُ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ الَّذِي هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلَهَا؛ لِتَكُونَ أَهْلًا لِلِقَاءِ اللهِ، وَمَحَلًّا لِمَرْضَاتِهِ وَثَوَابِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَأَعْلَى الثَّوَابِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى، وَكَمَالُ الْعِرْفَانِ وَالْعِلْمِ بِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، بِلَا كَيْفَ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَقَدْ قَرَّبْنَا هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِيَ فِي بَابِ الْفَتْوَى مِنَ الْمَنَارِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ.
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ} أَيْ مَا عَلَيْكَ شَيْءٌ مَا مِنْ أَمْرِ حِسَابِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، لَا عَلَى دُعَائِهِمْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ- كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ- وَإِلَّا فَظَاهِرُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ عُمُومُهُ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مَا مِنْ أَمْرِ حِسَابِكَ عَلَى أَعْمَالِكَ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَوْ ذَاكَ طَرْدُكَ إِيَّاهُمْ بِإِسَاءَتِهِمْ فِي عَمَلِهِمْ أَوْ مُحَاسَبَتِكَ عَلَى عَمَلِكَ، فَإِنَّ الطَّرْدَ جَزَاءٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ سَيِّئٍ يَسْتَوْجِبُهُ، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحِسَابٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِلرُّسُلِ وَلَا أَعْمَالُهُمُ الدِّينِيَّةِ لَهُمْ، بَلْ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ لَا أَوْجُهَ الرُّسُلِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَيْهِ تَعَالَى لَا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ هُدَاةٌ مُعَلِّمُونَ، لَا أَرْبَابٌ وَلَا مُسَيْطِرُونَ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [88: 21، 22] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرُّسُلِ حَقُّ السَّيْطَرَةِ عَلَى النَّاسِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَقُّ بِالْأَوْلَى، وَالْمَأْثُورُ عَنِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُسَمَّى مُعَلِّمًا، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ فِي عَهْدِهِ كَانُوا يُسَمَّوْنَ تَلَامِيذَ. وَأَمَّا أَتْبَاعُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَقَدِ اخْتَارَ لَهُمْ كَلِمَةَ الْأَصْحَابِ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ تَوَاضُعًا، عَلَى أَنَّ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ الْكَامِلَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُسَاوٍ فِي أَحْكَامِهَا لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ وَيَحِلُّ وَيُحْرُمُ وَيُبَاحُ وَيُكْرَهُ إِلَّا مَا خَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعْهَدُ النَّاسُ مِنِ امْتِيَازِ الْمُلُوكِ عَلَى الرَّعَايَا مِنْ أُمُورِ الْأُبَّهَةِ وَالزِّينَةِ وَالْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ شَاقَّةٌ لَا يَقْوَى عَلَى الْقِيَامِ بِهَا غَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم كَوُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ مَا يَتْرُكُهُ صَدَقَةٌ لِلْأُمَّةِ لَا إِرْثًا لِذَرِّيَّتِهِ، وَكَفَالَتِهِ عِدَّةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَرَامِلِ أَكْثَرُهُنَّ مُسِنَّاتٌ يُسَاوِي بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ عَائِشَةَ الْجَمِيلَةِ الصُّورَةِ الْبَارِعَةِ الذَّكَاءِ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ وَذَاتِ يَدِهِ وَحِكْمَةُ تَعْدُدِهِنَّ قَدْ فَصَلْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ [رَاجِعْ ص 287 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ زِدْنَاهَا بَيَانًا فِي الْمَنَارِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحِسَابُ عَلَى الرِّزْقِ إِذْ زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ مَا آمَنُوا بِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ عِنْدَهُ رِزْقًا، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ رِزْقِهِمْ وَلَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِ رِزْقِكَ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يَرْزُقُكُمُ اللهُ جَمِيعًا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْأَوَّلُ مَنْقُولٌ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ طَعَنُوا فِي إِيمَانِ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْكَيْدَ؛ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّ سَائِرِ الضُّعَفَاءِ عَنْهُ بِأَنَّ عَاقِبَتُهُمُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، كَمَا يَصُدُّونَ الْأَقْوِيَاءَ وَالْكُبَرَاءَ بِإِثَارَةِ الْحَمِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِبَعْضِ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الْكِرَامِ لِاحْتِقَارِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِإِسْلَامِهِمْ، قَبْلَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ فِتْنَتِهِمْ، فَقَدْ فَتَنُوهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ لِيَرْجِعُوا إِلَى الشِّرْكِ كَالْجُوعِ وَالْحَبْسِ، وَالضَّرْبِ، بَلْ كَانُوا يَكْوُونَ بَعْضَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا فَعَلُوا بِآلِ يَاسِرٍ، أَوْ بِوَضْعِهِمْ عُرَاةَ الْأَبْدَانِ عَلَى الرَّمْلِ الْمُحْمَّى بِهَجِيرِ الصَّيْفِ كَمَا فَعَلُوا بِبِلَالٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} جَوَابٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الطَّرْدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ قَبْلَهُ: {فَتَطْرُدَهُمْ} فَهُوَ جَوَابٌ لِنَفْيِ الْحِسَابِ تَنْتَهِي بِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ الْمُعَلِّلَةُ لِعَدَمِ جَوَازِ الطَّرْدِ بِبِنَاءِ نَفْيِهِ عَلَى نَفْيِ سَبَبِهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ جَوَازُهُ عَلَيْهِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَطْفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ إِيرَادَاتٍ أُجِيبَ عَنْهَا بِسُهُولَةٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْأَوَّلِ جَوَابَ النَّهْيِ وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ مَا لَا يُجَابُ عَنْهُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ- وَهُوَ الصَّحِيحُ- لَا تَطْرُدْ هَؤُلَاءِ فَتَكُونَ بِطَرْدِكَ إِيَّاهُمْ مِنْ جِنْسِ الظَّالِمِينَ وَمَعْدُودًا فِي زُمْرَتِهِمْ؛ لِأَنَّ طَرْدَهُمْ لَا يَكُونُ حَقًّا وَعَدْلًا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاءً عَلَى إِسَاءَتِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِمَنْ لَهُ حَقُّ حِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ أَنْتَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى يَتَأَتَّى أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ، فَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [26: 113] فَوَجْهُ الْكَوْنِ مِنَ الظَّالِمِينَ أَنَّ الطَّرْدَ لَوْ حَصَلَ يَكُونُ حُكْمًا غَيْرَ جَائِزٍ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ لِذَاتِهِ {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [57] وَاللهُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَائِزٌ فِي مَوْضُوعِهِ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ جَائِزٍ فِي صُورَتِهِ وَشَكْلِهِ؛ إِذْ هُوَ ظُلْمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقُرْبِهِ صلى الله عليه وسلم وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَظُلْمٌ لِنَفْسِ الْحَاكِمِ- وَحَاشَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ- لِأَنَّهُ يُنَافِي مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ ظُلْمًا مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: فَتَظْلِمَهُمْ، أَوْ: فَتَكُونَ ظَالِمًا، أَوْ: فَيَكُونُوا مِنَ الْمَظْلُومِينَ.
وَالْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ وَظَائِفِ الرَّسُولِ مِنَ الْجِهَةِ السَّلْبِيَّةِ؛ إِذْ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ حِسَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا جَزَاءَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْكَوْنِ، وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَلِكًا، وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهَا التَّشْدِيدُ فِي تَنْفِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَضِيَ بِذَلِكَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَاشَاهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَاتَبَهُ رَبُّهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَالتَّلَهِّي عَنِ الْأَعْمَى (عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) لَمَّا جَاءَهُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُتَصَدٍّ لِدَعْوَةِ بَعْضِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ، طَامِعٍ فِي هِدَايَتِهِمْ، وَخَافَ أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى ذَلِكَ الْأَعْمَى الْفَقِيرِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [80: 1] وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدِ اغْتَرَّ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مُنْكَرَةٍ بَاطِلَةٍ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوُجِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا؛ فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِنْ نَحْنُ جِئْنَا فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: «نَعَمْ» قَالُوا: اكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا، قَالَ: فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيفَةَ ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِهِ لِسَنَدِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَسْلَمَ قُبَيْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَرَّحَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي السِّيَرِ. وَأَمَّا عُيَيْنَةَ فَقَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ الرَّجُلَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا، وَلَمْ يَكُونَا مِنْ أَشْرَافِ مَكَّةَ، بَلْ كَانَا مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَلَمَّا أَسْلَمَا كَانَا مِنْ صِنْفِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمَا ذَكَرَا قُدُومَ الْوُفُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِمَ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ، بَلْ كَانَ النَّاسُ فِيهَا يَصُدُّونَ عَنْهُ صُدُودًا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَاخِرِ عُمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إِجَابَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَوْ مَعَ الْقَصْدِ الْحَسَنِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ: {كَلَّا} فِي سُورَةِ عَبَسَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ نَفِيِ مِلْكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِطَرْدِهِمْ يَتِمُّ بِنَفْيِ كَوْنِهِ يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ حِسَابِهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لَا يَظْهَرُ لَهَا دَخْلٌ فِي التَّعْلِيلِ. وَيُجَابُ عَلَى طَرِيقَتِنَا بِأَنَّ طَرْدَ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ أَوِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُحَاسَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَكَمْ مِنْ قَوِيٍّ حَاسَبَ ضَعِيفًا عَلَى عَمَلٍ وَجَازَاهُ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ، وَكَمْ مِنْ ضَعِيفٍ حَاسَبَ قَوِيًّا عَلَى حَقِّهِ وَطَالَبَهُ بِهِ، أَوْ عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ أُمَّتِهِ فَطَرَدَهُ الْقَوِيُّ لِمُنَاقَشَتِهِ إِيَّاهُ الْحِسَابَ، فَلَمَّا بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي حِسَابِ الْآخَرِ عَلَى شَيْءٍ مَا، عُلِمَ أَنَّ الْقَوِيَّ مِنْهُمَا لَا حَقَّ لَهُ فِي طَرْدِ الضَّعِيفِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذًا لَا يَكُونُ طَرْدُهُ إِيَّاهُ- إِنْ وَقَعَ- إِلَّا ظُلْمًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْكَلَامِ الْمُرَادِ بِهِ الْهِدَايَةُ وَالْإِرْشَادُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى لِلرَّسُولِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ رَبِّهِمْ وَإِلَهِهِمْ، لَا مِنْ حَقِّ رَسُولِهِمْ- بَيَّنَ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُحَاسِبُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَلَا الْعَامَّةِ كَتَبْلِيغِ الدِّينِ وَبَيَانِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَفَعَلَ، كَمَا جَعَلَ حَقَّ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَئِمَّتُهُمْ وَرَعِيَّتُهُمْ، فَالْإِمَامُ (السُّلْطَانُ) رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، لِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يُحَاسِبُوهُ كَمَا يُحَاسِبُ هُوَ مَنْ دُونَهُ مِنَ الْعُمَّالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُحَاسِبَ الرَّسُولَ عَلَى سِيَاسَتِهِ أَوْ تَبْلِيغِهِ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنْ لِلرَّسُولِ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ عَلَى مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِمَا يَكُونُونَ أُمَّةً مُقَيَّدَةً فِي أَعْمَالِهَا الدِّينِيَّةِ بِشَرِيعَةِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ لَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمُومَ النَّفْيِ فِيهَا قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْعُمُومَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ خُصُوصُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا، وَهُوَ مُحْكَمٌ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نُكْتَةِ ضَمِّ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى: قَدْ جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقُصِدَ بِهِمَا مُؤَدًّى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [164] وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ. اهـ. أَيْ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ مِنْكُمَا بِحِسَابِ الْآخَرِ.
وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَمَّ بِمَا قَبْلَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ انْتِفَاءِ كَوْنِ حِسَابِهِمْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِنَظْمِهِ فِي سِلْكِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَصْلًا، وَهُوَ انْتِقَاءُ كَوْنِ حِسَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. اهـ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ حَقِيقٍ بِجَلَالَةِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ، وَتَبِعَهُ الألوسي كَعَادَتِهِ وَلَمْ يَعْزُ الْكَلَامَ إِلَيْهِ هُنَا. وَلَعَلَّ الْمُتَأَمِّلَ يَرَى أَنَّ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقِيقِيُّ بِجَلَالِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُ- عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْكَلَامِ- مَبْنِيٌّ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَبَقَائُهُ مُحْكَمًا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.